وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ
لقد أساء المفسرون والفقهاء فهم المقصود من أمر الله تعالى بضرب النساء، فتبادر إلى أ ذهان هم اللطم أو الجلد أو ما شابه من صور الإيذاء الجسدي، والسبب في وصولهم إلى هذا التصور الخاطئ هو الابتعاد عن أصول تفسير القرآن الكريم، تلك الأصول التي بينها الله تعالى في كتابه كما سيأتي.
إن الضرب في اللغة يقَع على جميع الأعمال، فمعناه واسع جدا، وسوف نوضح لكم تفسير الآية الكريمة بشكل مبسط ان شاء الله في سلسلة التفكر.
أ- النشوز
نشز ينشز نشوزا إذا زحف عن مجلسه فارتفع فويق ذلك كما ورد في قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة: 11]
أي إذا قيل لكم ارتفعوا وازحفوا عن مجلس النبي قوموا وتفرقوا.
وأما قوله {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} فجزاؤهم من جنس عملهم لكنه خيرٌ منه؛ لأن الله تعالى قال:
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89] فنشوز الزوج أو ال زوجة إرادتهما الفراق.
وأما نشوز ال زوج فهو إرادته تطليق زوجته.
قال الله تعالى:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء : 128]
وقد روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ في سبب نزول هذه الآية، قَالَتْ: ” أُنْزِلَتْ فِي الْمَرْأَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَتَطُولُ صُحْبَتُهَا، فَيُرِيدُ طَلَاقَهَا، فَتَقُولُ: لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنِّي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ “
وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَتْ عَائِشَةُ: «يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ، مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتَ عِنْدَهَا»
وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ:
حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ (أي خافت) أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، قَالَتْ: نَقُولُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا أُرَاهُ قال: وإن امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا [النساء: 128]
وأما نشوز الزوجة فإرادتها المف ارق ة عن زوجه ا.
روى البيهقي عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ امْرَأَةً نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ شُرَيْحٌ: ” ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ” فَفَعَلُوا فَنَظَرَ الْحَكَمَانِ إِلَى أَمْرِهِمَا فَرَأَيَا أَنْ يُفَرِّقَا بَيْنَهُمَا فَكَرِهَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ شُرَيْحٌ: ” فَفِيمَ كُنَّا فِيهِ الْيَوْمَ وَأَجَازَ أَمْرَهُمَا “
والفرق بين النشوزين جواز الصلح في نشوز الزوج دون جوازه في حال نشوز الزوجة. لأن الزوج له أن يتزوج من زوجة أخرى فيجوز المصالحة بينهما دون أن يطلقها. وأما الزوجة فليس لها أن تتزوج بزوج آخر دون أن تف ارق زوجها الأول، لذا لا يجوز المصالحة بينهما في تزوج من تريده دون أن تفارق الأول.
ب- فَعِظُوهُنَّ
وإن خاف الزوج نشوز زوجته، أي إرادتها الإفتراق عنه والافتداء منه، فله أن يذكٍّرها بما مضى من العشرة الحسنة بينهما وبما تواجهه من الشر من إعطائها ما أخذت منه وبحاجتها إلى من يحميها وما شابه ذلك من الكلام الذي يرق له ال قلب .
ج _ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ
أي وإن لم يتعظن بالوعظ الحسن وأظهرن قرارهن في الافتداء فاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ مستجيبن لطلبهن؛ لأن الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره. فإن الزوج بعد هذا القرار يكون مثل المطَّلقة من النساء. قال تعالى فيهن: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة/228] فوجب على الزوج مثل ما وجب على الزوجة بعد الطلاق وهو تربصه بنفسه في البيت لأن الله تعالى قال في الطلاق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]
والمضاجع جمع مضجع وهو مكان النوم نام أو لا كالبيت لأن البيت من بات بِمَعْنى: أَقامَ لَيْلًا ونزلَ بِهِ، نَام أَوْ لَا.
فهجر الزوج زوجته في المضجع تربصه بنفسه في البيت حتى تتمكن الزوجة من التأكد من قرارها في بالافتداء منه أو الرجوع إليه كما يفعل الزوج مع زوجته التي طلقها من إمساكها بمعروف في العدة أو تسريحها بإحسان بعد انقضائها لقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة/231]
وهناك فرق بين الزوج والزوجة في التربص، وهو أن تربص الزوجة محدود بالعدة وعليها أن تترك البيت ما لم يراجعها في الأجل. وأما تربص الزوج فغير محدود بالأجل، فلا يجب عليه أن يترك زوجته قبل قرار القاضي أو الحكم. وتلك الدرجة التي ذكر ها الله في قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]
د_ وَاضْرِبُوهُنَّ
وقوله تعالى: “وَاضْرِبُوهُنَّ” من الضَّرْب وهو يقَع على جميع الأعمال. الْعَرَب تَقُولُ: أَضْرَبَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ: أَقَامَ.
وفي تاج العروس : المضْرُوبُ، المقِيمُ فِي البَيْت.
ويقع على معنى المشتملة على شيء في قوله تعالى:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه فتقدير قوله تعالى "وَاضْرِبُوهُنَّ" ألصقوهن على المضاجع أي اتركوهن في البيوت بحالهن فلا تخرجوهن منها وهذا مثل ما يجب عليهن في العدة لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتهن وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] لأن الزواج لم ينته بعد.
وقال ابن جرير عن ابن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قلت لابن عباس ما الضرب؟ فقال: "بالسواك ونحوه"، لافتا إلى وجود فرق شاسع بين ما ورد عن ابن عباس وما يفعله الناس اليوم من الضرب الشديد وما إلى ذلك؛ موضحا أنه لا يكون الضرب الشديد بالعصا أو ما في مثلها.. وإنما يكون بالسواك فقط تعبيرا عن اللوم وإظهارا للعتاب ولا يجوز أن يكون بقصد الانتقام، وأن يبتعد عن الأماكن الحساسة كالوجه والرأس والقفا وما إلى ذلك.
وأكد أستاذ التفسير وعلوم القرآن، أنه من خلال ما تق دم نفهم أن إباحة الضرب الواردة في الآية الكريمة "وَاضْرِبُوهُنَّ" ليست على سبيل الإطلاق في كل الأحوال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ضرب النساء فقال: لا تضربوا إماء الله، فجاء سيدنا عمر إلى النبي عليه السلام فشكى إليه تمر د النساء على أزواجهن في ذلك الوقت فرخص النبي بالضرب الذي هو على هيئة العتاب.. ففهم بعض الصحابة خطأ أن هذا ترخيص لمطلق الضرب فذهبت بعض الزوجات واشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عنف الأزواج فعندئذ غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم.
ولخص ما سبق قائلا: هذا يشير بأن الضرب ليس مباحا على جهة الإطلاق بل هو ممنوع مطلقا على جهة الإهانة أو الإساءة أو الإيذاء وهو المعني في منع النبي بأول الأمر ثم رخص فيه على جهة العتاب.
تجميع: حياة
المصدر:حبل الله/اسلام ويب